الشهيد اللواء/ أحمد يحي الأبارة.. أوقف جُل حياته لمقارعة التسلط والاستبداد

- ‎فيتقارير

لم يعد (7/7) منذ العام 2015 بالتاريخ الذي يوثق ذكرى الحرب المشؤمة في صيف 94م، بين شركاء الوحدة التي لم تكن قد بلغت السنوية الرابعة على إعلان إعادة تحقيقها بين شطري اليمن، فقد ارتبط أيضا بواقعة استشهاد اللواء الركن أحمد يحي الأبارة، أبرز القادة العسكريين الذين شكلوا النواة الأولى للجيش الوطني في صحراء حضرموت العبر، عقب البدء بعمليات عاصفة الحزم المساندة للجيش والمقاومة في معركة استعادة الدولة المخطوفة والمغتصبة بقوة السلاح من المليشيات الحوثية التي تجد دعما إيرانيا ملحوظا ومؤكدا.

وشكل استشهاد اللواء الأبارة مع 10 أخرين من أسرته في قصف طيران التحالف العربي المساند للشرعية على معسكر اللواء 23 ميكا بصحراء حضرموت، خطأ فادحا قالت تحقيقات التحالف أن عملياتها تلقت بلاغا وإحداثيات مغلوطة، وأن الحادث كان عرضيا.
المهمة التي كان الشهيد الأبارة- رحمه الله- يخطتها في لحظات استشهاده مع مرافقيه، ورفاقه من القادة العسكريين، هي تشكيل أحد الألوية العسكرية التي كانت مهمتها تحرير إقليم تهامة بمساندة العديد من شباب ريمة، وفوق ذلك كان يحمل أجندة من الأفكار الملهمة لرد الإعتبار للجيش من خلال تأسيس جيش وطني لا ينساق في تشكيلاته إلى ولاءات شخصية ومناطقية وطائفية.

لقد قرر أنه لابد من مهمة كهذه، لاسيما وصنعاء العاصمة، ومدن يمنية أخرى، قد صارت في قبضة سلطة المليشيات الحوثية، وبتواطؤ وتسهيل من الأجهزة العميقة لنظام صالح، وبالذات أجهزته العسكرية والاستخباراتية.
قالها بوضوح:” إنها العودة لحكم السيد والعبيد” وهذا لا يمكن القبول به”؛ ليعود مجددا إلى بزته العسكرية، وهو الذي بالكاد يصدق من عرفه بمدنيته وانخراطه في النشاطات المدنية والسياسية، أنه شخصية عسكرية، وخاض حروبا ومعارك، من بينها قيادته لفصائل في حرب المناطق الوسطى،( الجبهة الوطنية)، ضد نظام الرئيس صالح. ولاحقا قيادته لفيلق عسكري يمني في الحرب العراقية ضد إيران في الثمانينات من القرن الماضي، عقب الخروج من مفاوضات الجبهة الوطنية مع النظام وتوقف الحرب.

العودة إلى بزته العسكرية

هل كان عليه أن يعود لبزته العسكرية، وهو المعروف في منتديات وفعاليات البلاد بالسياسي البارع والمثقف العضوي، والناشط الاجتماعي، 
 لولا أنه يؤمن بعمق أن المعركة لا ينبغي مهادنتها، فقد وصل الخطر حد الإنقلاب على أعظم مكاسب اليمنيين طوال ما يزيد عن نصف قرن من الزمن، كما وصل حد تهديد الهوية اليمنية، والتجريف فيها.
كتب نجله “عبدالرقيب” الذي كان يرافقه إلى ماقبل لحظات استشهاده، أن والده قال له : “أنا أؤسس لجيل لا تكون أنت فيه مواطنا درجه ثانية، ولا يكون فيه سيد وعبد، ولا شريفة وعاهرة.. وسأبذل روحي لذلك”.
وأضاف عبدالرقيب : ” قبل ثلاثة أيام من مجزرة العبر الأليمة جمعنا والدي نحن والمرافقين الذين استشهدوا جميعا، وكان ذلك في فترة سحور رمضاني، وألقى علينا محاضرة كان مضمونها باختصار: “جمعتكم لأخبركم بأنني لم أكن أعتقد يوما بأنني سأضطر إلى حمل السلاح وأناديكم إلى حمله،  وانا الشخص الذي اؤمن بقداسة السلمية وقوة العلم، لولا الظرف الراهن الذي يحاول إجبارك ان تعيش كعبد”.

قرار اللاتراجع..

وقبل أن تقتحم المليشيات الحوثية صنعاء، كان الشهيد مع مجموعة كبيرة من الشباب والناشطين يحضرون لإطلاق “تيار الإرادة اليمنية”، لكن احتلال المليشيات لصنعاء أطاح بالفكرة والجهود.
ويسجل في هذا السياق المحلل السياسي عبد الغني الماوري شهادته عن الشهيد اللواء الأبارة بالقول: “عند احتلال مليشيات الحوثي عمران، قرر أحمد يحيى الأبارة أن يكون في الجانب الصحيح من التاريخ: لا يجب أن يعود اليمن للعيش تحت وصاية الإمامة، و شارك بفاعلية في تأسيس التكتل الوطني للإنقاذ، وهو الكيان الذي ضم تحت لوائه الاحزاب السياسية وفصائل تنتمي للحراك الجنوبي والنقابات والاتحادات ومناضلي ثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر والشخصيات الاجتماعية والقبلية ومنظمات المجتمع المدني وبعض المكونات الشبابية”.
وأضاف الماوري: “لقد كان من المؤمل أن يخوض التكتل مواجهة سياسية شاملة ضد تحالف صالح/الحوثي، غير أن الحرب ألقت بكل تلك الجهود السلمية جانبا، وبات الاحتكام للقوة  هو سيد الموقف.
وتابع: “توارى كثيرون عن المشهد تحت ذرائع كثيرة، لكن أحمد يحيى الأبارة عاد لبزته العسكرية وقرر الاصطفاف خلف الرئيس عبدربه منصور هادي، خلف شرعيته الدستورية وخلف الإجماع الوطني المتمثل في مؤتمر الحوار الوطني”.

مع الثورة السلمية..

وتمثل ثورة فبراير2011م، من أبرز المحطات  التي جسدت شخصية “الأبارة” المرتفعة على المناصب والترقيات، وجسدت تمثله لأفكاره التي يعرفها الجميع عنه بما في ذلك الذين يختلفون معه.
لقد أعلن التحاقه بثورة الشباب والشعب السلمية، وجمد نشاطه في قيادة المجلس المحلي بمحافظة ريمة، كما كان ذلك مدعاة لتقديم استقالته من عضوية دائمة المؤتمر الشعبي العام، احتجاجا على ممارسات النظام ضد المحتجين والمعتصمين، وأيمانا منه بضرورة التغيير .
 وجاء في شهادات للماوري: “أنه لم يكن يدرك الذين في ساحة التغيير أهمية الرجل الذي أصبح واحدا منهم، لكن قليلون جدا من كان يعرف ذلك. أما النظام، فقد كان يدرك أن انضمام أشخاص مثل أحمد يحيى الأبارة للثورة يزيدها قوة واتساعا، وهو الأمر الذي لا يجب أن يحدث”.
مؤكدا أن “الأبارة تلقى اتصالا من وكيل جهاز الأمن القومي وابن أخ علي عبدالله صالح، يحاول ثنيه عن هذا القرار، عارضا عليه جملةً من الإغراءات، فكان رده بسيطا جدا ومختصرا: هذا خيارنا، ولا يمكننا التراجع عنه”.

رجل الإجماع..

لم تكن الخيارات السياسية أو والحزبية في حياة الشهيد الأبارة بالأمر الذي تفرض التمترس لأجلها، ومبادلة الأخرين اللاقبول أو الرفض، لقد كان الشهيد محل إجماع مختلف القوى والمكونات السياسية والحزبية في محافظة ريمة، وبرغم خروجه من الإشتراكي عام97، إلى المؤتمر الشعبي العام، فإن علاقته بقيت مثالية مع رفاقه الذين يشكلون معه وجهاء وكبار المحافظة.
وتحكي شهادات قدمها الذين عملوا معه في السلطة المحلية عن “المؤتمر”، أنه كان يفصل
بين علاقات الحزبية والعمل المحلي.
وعرف عنه معاركه ضد الفساد في ريمة، ومن موقعه في قيادة السلطة المحلية، رافضا في كل مرة عروض ومغريات، مقابل سكوته.
وظل الشهيد الأبارة على موقفه المناهض للفساد، والمؤازر لأي جهد يرمي إلى التغيير والإصلاح.

وكانت رؤيته في مايتعلق بالسياسة والأحزاب “فيها قدر كبير من الإيمان بالتنوع واحترام الاختلاف، وبخلاف كثير من المتحزبين، كان يؤمن أن الأحزاب السياسية باختلاف ميولها واتجاهاتها السياسية والفكرية تشكّل حالة وطنية ضرورية لاستقرار البلاد وتقدمها”.

أسفار الشهيد..

تشير السيرة الذاتية للشهيد الأبارة إلى أنه من مواليد الثالث من رمضان 1371هـ الموافق 26 مايـو 1952، في قرية الحرف/المصنعة، عزلة الأبارة، مديرية مزهر، محافظة ريمة.
 كانت نشأته في أسرة تعمل في الزراعة؛ حيث كان والده من الملاك الميسورين نسبياً للأراضي الزراعية، سواء الأراضي الجبلية المروية بالمطر “المدرجات” أو الأراضي المروية بمياه الوديان الجارية في وادي هجيرة “الغيل” أو وادي عروة.

و”في هذه البيئة الفلاحية التي ينتمي إليها كل أبناء ريمة؛ حيث الخضرة الدائمة والمدرجات المعلقة على صدور وأعناق الجبال الشاهقة، وحيث الوديان الغناء الهادرة، درجت طفولة الشهيد، وبدأ منذ وقت مبكر الإحاطة بالأحداث حوله؛ حيث يشير في مذكراته إلى حادثة سقوطه من سقف الدور الثاني في البيت دون أن يصاب بكسور أو جروح، وهو لا يزال في العام الثالث من عمره، وهو يتذكر كل تفاصيل الحادثة وعناية أمه به والناس، بغسله بالماء الساخن لمعالجة رضوضه، وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة للعلاج في مجتمع القرية، وسرعة تعافيه من الرضوض التي نتجت عن سقوطه”.

حين بلغ السادسة من العمر أصيب بمرض الجدري الذي حصد أرواح الكثير في المنطقة، ومنهم زملائه وأترابه، دون أي دواء، إلى أن عافاه الله من المرض الذي ترك على وجهه ندوباً لازمته بقية حياته، بالإضافة إلى ندوب أشد إيلاماً في ذاكرته ووجدانه؛ إذ تأثر كثيراً بموت كثير من  أقربائه وأترابه من زملاء الدراسة، أو ممن كان يلعب معهم.

رحلة مع المعارف..
 
عهد به في سن مبكرة إلى العلامة الصوفي الكبير محمد صالح الأبارة، والذي تتلمذ على يديه كبار أبناء المشايخ والوجهاء في ريمة. ختم القرآن في فترة وجيزة، وانتقل بعد ذلك الى علوم الفقه وعلم الفرائض والنحو في فترة قياسية، إذ درس متن الأجرومية والرحبية والزبد وسفينة النجاة وسفينة الصلاة وملحة الإعراب والحساب، وكان من أنبه الطلاب في الحفظ والإحاطة بالعلوم التي تلقاها.
ومن خلال مرافقته لعمه الشيخ إسماعيل غالب إلى مركز القضاء “الجبي” أو مركز الناحية “كسمة” أو الأسواق الأسبوعية، بدأت مداركه المعرفية تتسع؛ حيث كان عمه يقتني بعض الكتب والدواوين الشعرية، إلى جانب كونه يكتب الشعر، أو تهدى إليه كتب من مشائخ وحكام ووجهاء، كثيراً ما كان الشهيد يقرؤها بنهم، وكان من أهمها: أشعار الزبيري، خطابات النعمان، وكتب عن القومية وعبدالناصر، ومؤلفات لجرجي زيدان، ومجلة الحكمة اليمانية، وكتب من الأشعار والمدائح الصوفية، وغيرها من الكتب والإصدارات التي تقارع الاستبداد والاستعمار والكهنوت. وقد كان كثير التأثر بها وبأشعار متداولة لشعراء شعبيين تحض على الثورة والتمرد على واقع الجمود والتخلف.
ومع توسع دائرة معارفه، وعلاقاته من الشباب المتطلعين للتغيير في المديرية أو مديريات مجاورة، مثل السلفية وعتمة، بدأ تأثيره الثوري يتوسع أكثر فأكثر، حتى صار ملهماً للكثيرين في نشر قيم الثورة والتغيير في أوساط مجتمعاتهم، ومحط إعجابهم وتقديرهم.

وبالإجمال، يعد الشهيد البطل الأبارة علما من أعلام محافظة ريمة، قبل ذلك هو قامة وطنية بارزة، كرس حياته في مقارعة كل مظاهر التسلط والاحتكار والهيمنة والإقصاء والتهميش والديكتاتورية والاستبداد.

ويتذكر له الكثير من السياسيين والناشطين والمثقفين كيف كان منزله بالإيجار في صنعاء أشبه بالمنتدى الثقافي والسياسي المفتوح لكل الأطياف السياسية المختلفة دون استثناء.

وليس من ختامية هنا أجمل من صوت الشاعر المتمرد الجميل طه الجند وهو يوجز مرثاة نثرية في رحيل الشهيد الأبارة، صديقه الذي كان يأنس إليه.

يقول طه الجند:

“أحمد يحي الأبارة “،
يذكرني بأبطال الملاحم..
وبزمرة الأحرار الكبار،
لا يساوم ولا يهتم بالمال.
الصديق الذي كنت آنس بقربه،
وأعتز برفقته..
في هذا الزمن الواطي؛
زمن تكاثر العبيد
والمتعيشون الصغار.

(بتصرف – المنبر برس)